م.د. فوزي خيري كاظم

 كلية الإمام الكاظم للعلوم الإسلامية/واسط /  العراق

fawzy1000@gmail.com

009647713721500

الملخص:

تُعدُّ الكتابة في تاريخ المدن واحدة من أهم المواضيع التي دأب عليها المؤرخون في كتاباتهم، توثيقاً منهم لبعض المدن، وقد اختلفت أسباب هذا التوثيق والتدوين لتاريخ المدينة بحسب أسباب المؤلف نفسه، فمنهم من دوّن لتاريخ مدينته التي ينتسب لها وعاش فيها، ومنهم من دوّن لتاريخ بعض المدن المقدسة عند المسلمين كتاريخ مكة وغيرها، لأهميتها الدينية عند عموم المسلمين.

ولعل من أهم هذه المؤلفات كتاب (أخبار مكة) لأبي الوليد محمد بن عبدالله بن أحمد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق والمشهور بلقب (الأزرقي) نسبة لجده الأزرق.

مشكلة البحث

يُعد هذا الكتاب واحداً من أهم المصادر التي تناولت تاريخ المدن وتحديداً تاريخ مكة المكرمة، فضلاً عن كونه أقدم مصدر وصل إلينا يتحدث عن تاريخ وأخبار هذه المدينة المقدسة في نفوس المسلمين. والبحث يركز على تقديم قراءة تفصيلية عن المؤرخ (الأزرقي) وكتابه (أخبار مكة) نسلط فيها الضوء على منهج وموارد هذا السفر القيّم .

أهمية البحث

وتأتي أهميته من سببين أساسيين أولهما: أنه أول كتاب تناول تاريخ مكة المشرفة تحديداً وتخصص فيه، متناولاً تاريخ المدينة المباركة من قبل أن يخلق الله الأرض – على حد قوله – وحتى عصر المؤلف . وثانيهما أنه أول مؤلف تناول وصفاً جغرافياً عند حديثه عن تاريخ المدينة بكل تفاصيلها، فوصف جبالها وأوديتها وسهولها ورباعها وغير ذلك . فشكل ذلك تطوراً ملحوظاً في أسلوب الكتابة التاريخية والتدوين في تلك الفترة المبكرة من عمر الدولة الإسلامية – النصف الأول من القرن الثالث الهجري .

أهداف البحث

تتركز أهداف البحث على تسليط الضوء على هذا المؤلف وتقديمه للقارء الكريم لما له من أهمية كبيرة كونه يعد من المصادر الأولى التي تتحدث عن تاريخ مكة المكرمة.

حدود البحث

تتمثل حدود البحث في الفترة الممدة من 180هـ-255هـ وهي المدة التي وُلد ومات فيها المؤرخ الأزرقي مؤلف كتاب (أخبار مكة) وهو موضوع البحث.

 

 

الدراسات السابقة

لم نعثر – من خلال بحثنا حول موضوع دراستنا هذه – عن أي دراسة سابقة تناولت الأزرقي أو كتابه (أخبار مكة) وكانت المصادر التي وجدناها تتحدث عنه وعن مؤلفه قليلة جداً حيث لاقينا صعوبة في جمع محتويات حياته.

منهجية البحث

استخدمنا المنهج الوصفي التحليلي في عملنا في هذا البحث، وقد اقتضت الضرورة تقسيمه إلى مبحثين: تناول الأول (مؤلف الكتاب ونبذة عن حياته)، فيما خصصنا المبحث الثاني لدراسة (منهج وموارد كتاب أخبار مكة)، فضلاً عن مقدمة وخاتمة خصصناها لأهم ما توصل إليه البحث من نتائج.

الكلمات المفتاحية: الأزرقي، تاريخ، مكة، أخبار، منهج .

 

The Book of Makkah News by Al-Azraqi – a study in its methodology and resources Researcher

D.r  Fawzi Khairy Kazem

Imam Al-Kadhim College of Islamic Sciences/ Wasit/Iraq

Abstract

Writing about the history of cities is one of the most important topics that historians have persevered on in their writings, documenting some cities from them, and the reasons for this documentation and codification of the city’s history differed according to the reasons of the author himself. Holy cities for Muslims, such as the history of Mecca and others, due to their religious importance to all Muslims.

Perhaps the most important of these books is the book (Akhbar Makkah) by Abi Al-Walid Muhammad bin Abdullah bin Ahmed bin Al-Walid bin Uqba bin Al-Azraq, who is known by the title (Al-Azraqabout to his grandfather Al-Azraq.

research importance

Its importance comes from two main reasons, the first of which is: It is the first book that deals specifically with the history of the honourable Mecca and specializes in it, dealing with the history of the blessed city from before God created the earth – as he said – until the era of the author. The second is that he is the first author to deal with a geographical description when he talks about the history of the city in all its details, describing its mountains, valleys, plains, quarters, and so on. This constituted a remarkable development in the method of historical writing and codification in that early period of the Islamic state – the first half of the third century AH.

research aims

The objectives of the research focus on shedding light on this author and presenting it to the honourable reader because of its great importance as it is considered one of the first sources that talk about the history of Makkah Al-Mukarramah.

Search limits

The limits of the research are represented in the period from 180 AH-255 AH, which is the period in which the historian Al-Azraqi was born and died, the author of the book (Akhbar Makkah), which is the subject of the research.

       Previous studies

  We did not find – through our research on the subject of our study – any previous study that dealt with Al-Azraqi or his book (Akhbar Makkah), and the sources that we found talking about him and his author were very few, as we had difficulty collecting the contents of his life.

research aims

The objectives of the research focus on shedding light on this author and presenting it to the honourable reader because of its great importance as it is considered one of the first sources that talk about the history of Makkah Al-Mukarramah.

Research Methodology

We used the analytical descriptive approach in our work in this research, and it was necessary to divide it into two sections: the first dealt with (the author of the book and a profile of his life), while we devoted the second section to studying (the method and resources of the book Akhbar Makkah), in addition to an introduction and a conclusion that we devoted to the most important findings of the research. out results.

Keywords: Al-Azraqi, history, Mecca, news, curriculum.

 

المقدمة

يعد كتاب (أخبار مكة) لمحمد بن عبدالله الأزرقي من أهم المصادر التي تناولت تاريخ المدن، وتأتي أهميته من سببين أساسيين أولهما: أنه أول كتاب تناول تاريخ مكة المشرفة تحديداً وتخصص فيه، متناولاً تاريخ المدينة المباركة من قبل أن يخلق الله الأرض – على حد قوله – وحتى عصر المؤلف . وثانيهما أنه أول مؤلف تناول وصفاً جغرافياً عند حديثه عن تاريخ المدينة بكل تفاصيلها، فوصف جبالها وأوديتها وسهولها ورباعها وغير ذلك . فشكل ذلك تطوراً ملحوظاً في أسلوب الكتابة التاريخية والتدوين في تلك الفترة المبكرة من عمر الدولة الإسلامية – النصف الأول من القرن الثالث الهجري .

ولتسليط الضوء على أهمية الكتاب ومؤلفه، ارتأينا أن نتناوله بالدراسة في بحثنا هذا، فدرسنا منهج الكتاب وموارده فضلاً عن دراسة نبذة عن حياة المؤلف .

وقد واجهتنا بعض الصعوبات في كتابة هذا البحث منها قلة المعلومات التي كتبت عن حياة المؤلف – على الرغم من شهرته كمحدث – فالمترجمون له أغفلوا الكثير من المعلومات عنه، وقد ذكروه ضمناً في ترجمة جده أحمد، فجاءت أغلب معلوماته فقيرة لا تغني الباحث بتتبع جوانب حياة هذا العالم الأخرى سوى ما يتعلق بروايته للحديث .

وقد اقتضت ضرورة البحث تقسيمه إلى مبحثين: تناول الأول (مؤلف الكتاب ونبذة عن حياته)، فيما خصصنا المبحث الثاني لدراسة (كتاب أخبار مكة) وتناولنا فيه نسبة الكتاب وأهميته ومختصراته وغير ذلك، ثم منهجه وموارده، فضلاً عن مقدمة وخاتمة خصصناها لأهم ما توصل إليه البحث من نتائج .

 

المبحث الأول: مؤلف الكتاب ونبذة عن حياته

اسمه

هو أبو الوليد محمد بن عبدالله بن أحمد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق الغساني المكي (السمعاني، 1997)، وقد إتفقت المصادر التي ترجمت له على اسمه ولم يرد في أي منها خلاف ذلك (ابن النديم، 1978) .

نسبه

ذكر المصنفون في الأنساب أن نسبته بـ(الأزرقي) تعود إلى جده الأعلى ابو عقبة الأزرق بن عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغساني (السيوطي، 1403هـ)، وهو حفيد المحدث أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي (ت 222هـ) (ابن سعد، د.ت).

ولادته ونشأته

لم تشر المصادر التاريخية لسنة ولادة الأزرقي، كما لم تشر أيضاً إلى نشأته وبداية تعلمه، إلا إننا نستطيع الاستنتاج من خلال القرائن التاريخية أنه ولد نهاية القرن الثاني الهجري وتحديداً في الربع الأخير منه، وذلك من خلال القياس على وفاة جده سنة (222هـ)، ووفاته هو سنة (250هـ) – على أكثر الأقوال – ومن خلال ملاحظة التاريخين نستطيع تبيان ولادته والتأسيس بأنها كانت في حدود سنة 180هـ تقريباً، بزيادة أو نقصان بضع سنوات .

فالمرء قد يبلغ الأربعين من العمر – في الظروف الطبيعية – لكي يصبح له حفيد، وبما أن جده توفى (222هـ)، فيكون ما ذكرناه أقرب للدقة .

 

شيوخه

لم تذكر المصادر التي ترجمت له شيوخاً تتلمذ على أيديهم في مستهل حياته العلمية، أو من روى عنهم واخذ علومه منهم، سوى من ذكرهم الأزرقي في كتابه أخبار مكة من شيوخ استقى من

رواياتهم مادة كتابه هذا .

تلامذته

إن محدثاً كالأزرقي لابد وأن يكون قد أخذ الكثيرون ورووا عنه، إلا أن المصادر التي ترجمت له لا تذكر من هؤلاء إلا اثنين منهم وهم:

1- إسحاق بن أحمد

أبو محمد إسحاق بن أحمد بن إسحاق ابن نافع الخزاعي المكي (الذهبي، 1993)، وصف بأنه إمام في قراءة المكيين، ثقة حجة له مصنفات في القراءات (كحالة، د.ت). توفي بمكة سنة 308هـ .

2- إبراهيم بن عبد الصمد

أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي (الخطيب البغدادي، 1997)، وكان إبراهيم يسكن سر من رأى، وحدث بها وببغداد (الذهبي، 1993). وله بعض المصنفات (كحالة، د.ت). مات بسر من رأى سنة 325هـ (الزركلي، 1980) .

مصنفاته

لم يُشر من ترجم للأزرقي من المؤرخين، إلى أن لديه مصنفات علمية أخرى غير كتاب أخبار مكة، باستثناء حاجي خليفة (حاجي خليفة، د.ت) الذي ذكر أن له مصنف آخر هو كتاب ((المسند)) وهو مفقود كما أشار إليه. ويبدو أنه في الحديث الشريف كما يتوضح لنا من اسمه .

وفاته

تضاربت آراء مترجمي الأزرقي حول وفاته، فمنهم من ذكر أنه توفى سنة 223هـ (شاكر مصطفى، د.ت)، فيما

ذهب آخر إلى أنها سنة 244هـ (كحالة، د.ت)، وجعلها بعضهم سنة 250هـ (الزركلي، 1980). أما بروكلمان فقد ذكر أنه كانت بعد سنة 244هـ بقليل (بروكلمان، د.ت).

وقد يكون من جعل وفاته سنة 223هـ توهم بينه وبين جده أحمد بن محمد المتوفى قريباً من التاريخ أعلاه، وهو ما اتفقت عليه أغلب المصادر التي ترجمت للجد (ابن سعد، د.ت) .

أما من يرى أنها 244هـ أو بعدها بقليل، فهذا ينافي ما ذكره الأزرقي نفسه في كتابه أخبار مكة، حين تحدث عن قصر جعفر البرمكي بالقول: “… وهو اليوم للمنتصر بالله أمير المؤمنين” (الأزرقي، 2003). ومن المعلوم للجميع أن المنتصر العباسي حكم ما بين سنتي (247-248هـ) (الطبري، 1983)، وإشارة الأزرقي هذه تدل على أنه كان حياً في هذا التاريخ، وهذا ما أكده تقي الدين الفاسي (ت 832هـ) أيضاً (الفاسي، 1986). وعليه يكون تاريخ وفاته الأقرب للدقة هو بعد سنة 248هـ .

المبحث الثاني: كتاب أخبار مكة

نسبة الكتاب

أجمعت المصادر التاريخية على نسبة الكتاب للأزرقي وهو ثابت النسبة له ومعروف ومتداول بين العلماء والمؤرخين بذلك (مغلطاي، 2001). باستثناء ما ذكره ابن عدي (ت 365هـ)، والذي نسبه إلى جده أحمد بن محمد (ابن عدي، 1988)، وهذا ما يخالف إجماع العلماء .

ويبدو لنا أن السبب في ذلك يعود إلى كثرة نقل الأزرقي – الحفيد – عن جده في الكتاب من روايات بلغت (792) رواية (الأزرقي، 2003).

 

تسمية الكتاب

اختلف المؤرخون في ذكرهم لأسم الكتاب، فمنهم من ذهب إلى أن اسمه (أخبار مكة) (السمعاني، 1997)، فيما ذكر آخرون أنه (تاريخ مكة) (المزي، 1985)، بينما سمَّاه بعضهم (كتاب مكة وأخبارها وجبالها وأوديتها) (ابن النديم، 1978) .

وفي النسخة التي حققت وطبعت سنة 2003، أثبت المحقق اسم الكتاب (أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار) .

وقد ذكر المحقق أن أغلب النسخ المخطوطة أُثبت على صفحتها الأولى اسم (أخبار مكة)، فيما تفردت إحدى النسخ باسم (تاريخ مكة) (الأزرقي، 2003).

ويبدو لنا أن ما ذكره ابن النديم (ت 385هـ) بأن اسم الكتاب هو (كتاب مكة وأخبارها وجبالها وأوديتها) هو الاسم الأقرب للدقة، كون ابن النديم الأقرب إلى عصر المؤلف، ولازال اسم الكتاب متداولاً في تلك الفترة، وإنما جرى اختصاره بـ(أخبار مكة) أو (تاريخ مكة) للسهولة .

فضلاً عن ذلك، أن الاسم المذكور هو الأقرب لعصر المؤلف فكرياً وتدوينياً، إذ أنه لم يسبق أن كتب مؤلف كتاباً عن مدينة وتكلم عن جغرافيتها وشرح معاني أسماء أماكنها وتاريخها، فالفكر الجغرافي لم يكن متبلورا آنذاك، وليس بالصورة التي أصبح عليها فيما بعد . والأزرقي أول من تناول ذلك من المؤرخين، لذا فهذه التسمية أقرب إلى عصره وأكثر توثيقاً له.

أهمية الكتاب

تأتي أهمية كتاب أخبار مكة للأزرقي، بأنه أول مؤلف عن تاريخ مكة المكرمة، فضلاً عن انه أول كتاب يتناول معلومات جغرافية تخص تاريخ مدينة بعينها (بروكلمان، د.ت). وهو بهذا يعد فاتحة عهد لفرع جديد من فروع التاريخ وهو تاريخ المدن، ولأهميته تلك فقد اعتمده أغلب المؤرخين ممن جاءوا بعده وأفادوا مما ورد فيه من روايات عن تاريخ المدينة .

مختصرات الكتاب

بالنظر لشدة اهتمام المؤرخين والمهتمين بالتاريخ عموماً لاسيما تاريخ مكة المكرمة، فقد عمد المؤلفون بعد عصر المؤلف إلى الكتاب وأولوه اهتماماً كبيراً؛ فامتدت أيديهم إليه بالعناية والتهذيب، وقام بعضهم باختصاره، ولعل أبرز هذه المختصرات:

1-     كتاب أخبار مكة (كحالة، د.ت): لرزين بن معاوية بن عمار الأندلسي السرقسطي المتوفى سنة (535هـ)، وهو مؤرخ ومحدث ويُعد إمام المالكية في مكة المكرمة وقاضي الحرم (الذهبي، 1993) .

2-     زبدة الأعمال وخلاصة الافعال (حاجي خليفة، د.ت): لأبي الحسن علي بن نصر الاسفراييني المتوفى سنة (726هـ) وقد جعله في بابين جاء أولهما في ذكر فضيلة الكعبة، وحوى أربعة وخمسون فصلاً وهو ملخص ما جاء في كتاب أخبار مكة للأزرقي، والثاني في ذكر فضيلة المدينة، وحوى خمسة وعشرون فصلاً. وقد أضاف عليه بعض الزيادات (حاجي خليفة، د.ت).

3-     نظم تاريخ مكة للأزرقي: وهي شعر نظمه عبد الملك بن احمد الأنصاري الأرمانتي من فقهاء القرن الثامن الهجري (الأزرقي، 2003).

4-     مختصر تاريخ مكة المشرفة (الزركلي، 1980): ليحيى بن محمد بن يوسف الكرماني المتوفى سنة (833هـ)، وقد قام بحذف أسانيد الكتاب وأضاف عليه بعض الزوائد (البغدادي، د.ت). وقد جاء في نهاية النسخة المخطوطة منه: ” هذا آخر ما أنتجه الفقير يحيى بن محمد الكرماني من تاريخ مكة للأزرقي رحمه الله تعالى ، في شعبان سنة إحدى وعشرين وثمانماية، بمصر المحروسة ” (الزركلي، 1980).

 

 

منهج الأزرقي في الكتاب

اتخذ الأزرقي منهجاً شاملاً بتنوع المادة التي تناولها وشملت كل النواحي التاريخية والفقهية والجغرافية وغيرها . وليس بعيداً عن أسلوب الكتابة والتدوين التاريخي في عصره – النصف الأول من القرن الثالث الهجري – استخدم المؤلف أسلوب أهل الحديث والرواية في عرض مادة كتابه هذا.

ابتدأ كتابه بعرض تاريخي مرتب ترتيباً زمنيا، مقسما ذلك إلى عناوين فرعية انطلق منها لترتيب كتابه، فذكر أولاً (ما كانت عليه الكعبة فوق الماء قبل خلق السماوات والأرض)، ثم ذكر (بناء الملائكة الكعبة قبل خلق آدم)، ثم (حج آدم للبيت)، ثم (بناء ولد آدم للبيت)، وهكذا يتابع ذكر الحوادث حسب تسلسلها الزمني وصولا إلى العصر الإسلامي وما تلاه، إلا في أحيان قليلة يخرج فيها عن هذا المنهج فيقدم بعض الأحداث على الأخرى حين يتطلب سياق الحديث الدخول في موضوع معين واستيفاء الحديث فيه لترابط الوقائع والشواهد، كما حصل حين ذكر تكسير الأصنام بعد دخول الرسول () مكة ثم عاد إلى سياق حديثه الأول والذي كان (مسير تبع إلى مكة) وأسترسل بعدها (الأزرقي، 2003).

وكما ذكرنا – استخدم منهج أهل الحديث في كتابه، إلا أن الإسناد عنده لم يكن بسياق واحد، إنما كان ينقل رواياته بإسناد موثق في بعضها عن رسول الله ()، وفي روايات أخرى يرويه موقوفاً على أحد الصحابة، وثالثة مقطوع (السيوطي، 1403هـ) عن أحد التابعين .

والكتاب مليء بالأحداث التاريخية طوال المدة التي تعرض لها المؤلف والممتدة حتى أوائل سنة 248هـ مما ارتبط ذكره بمكة المكرمة والكعبة المشرفة .

ومما تجدر الإشارة إليه أن المؤلف كان يورد في بعض الأحيان أكثر من رواية للحدث الواحد بأسانيد مختلفة واختلاف في الرواية، إلا انه لم يكن يرجح بين تلك الروايات، بل كان يتبع أسلوب الجمع لكل ما ورد في تلك المسألة .

ولا يكتفي الأزرقي بذكر الحوادث التاريخية، وإنما يتخلل كتابه أيضا الكثير من الأحكام الفقهية المتعلقة بالحج والصلاة في الكعبة وغيرها، كما ويتطرق للباس الكعبة وفرشها وبابها وحتى وصف مساميرها .

أما فيما يتعلق بالجانب الجغرافي والذي خصص له القسم الثاني من الكتاب، فقد قدم الأزرقي وصفا دقيقا لمكة وبيوتها وأوديتها وآبارها وعيونها ومساجدها وكل ما يتعلق بعمارتها، كما ويذكر فيه الأدوار التي مرت بها عمارة الكعبة والمسجد الحرام حتى عصره .

ومن الجدير بالذكر أن وصفه هذا للكعبة المشرفة وما حولها وعمارتها كانت من مشاهداته الشخصية وملاحظاته – كما يفهم من عباراته (الأزرقي، 2003). وهذا يدل على مدى دقته في عمله، وحرصه على تقديم معلومات وافية ودقيقة . كما ويؤكد على أن براعته في الجغرافية فضلا عن براعته في الحديث والتاريخ والعلوم الأخرى .

ومن الضروري أن نذكر هنا أن في هذا القسم من الكتاب – القسم الجغرافي – تقل فيه الرواية كثيرا لأنه يعتمد بالدرجة الأولى على ملاحظاته ومشاهداته الشخصية .

ولعل الملاحظة الأكثر أهمية والواجب ذكرها، أن الأزرقي أهمل ذكر الجوانب الثقافية والعلمية لمكة المكرمة ولم يتطرق إليها في مجمل الكتاب .

موارد الكتاب

اعتمد الأزرقي في مادة كتابه – على الروايات الشفوية عن شيوخه، ولم يعتمد مادة مكتوبة. وقد بلغ عدد من نقل عنهم من العلماء (36) شيخاً (الأزرقي، 2003)، اختلف نقله عن كل واحد منهم، فبينما روى عن جده (792) رواية، اكتفى برواية واحدة عن غيره من الشيوخ . وأبرز من أخذ عنهم الأزرقي:

1- إبراهيم بن محمد: أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن العباس بن عثمان بن شافع المطلبي المكي ابن عم الإمام الشافعي (المزي، 1985)، وثقه أصحاب الحديث ورووا عنه في السنن والصحاح (ابن حجر، 1984)، إلا أنهم لم يذكروا شيئا عن حياته يمكن من خلالها التعرف عليه، ويبدو أن من ترجمه شُغل بنقل حديث وتوثيقه عن الترجمة له. أورد الأزرقي عنه 16 رواية . توفي سنة 237هـ (الذهبي، 1993).

2- أحمد بن محمد الأزرقي: هو أبو محمد أحمد بن محمد بن الوليد بن عقبة ابن الأزرق الأزرقي الغساني المكي (ابن الأثير، د.ت) جد المؤلف، يعد من محدثي عصره وثقاتهم (ابن حبان، 1973)، وهو أحد شيوخ البخاري وأوصياء الشافعي (ابن حجر، 1984) وعنه أخذ أصحاب الصحاح والسنن كالترمذي والنسائي والبخاري ومسلم وابن خزيمة (الذهبي، 1987). وهو أكثر من روى عنه حفيده في كتابه، فقد أورد عنه 792 رواية في مختلف أبواب الكتاب .

3-أحمد بن نصر النيسابوري: أبو عبدالله أحمد بن نصر النيسابوري (مسلم، 1404هـ)، مقرئ محدث أخذ عنه جمع من المحدثين وأصحاب السنن، وهو أحد شيوخ النسائي (المزي، 1985). وهو ثقة عندهم (الرازي، 1952) . ذكر له الأزرقي روايتين فقط. لم يذكر مترجموه سنة وفاته .

4-سعيد بن منصور: هو أبو عثمان سعيد بن منصور الخراساني نزيل مكة (البخاري، 1406هـ)، وصف بأنه ثبت صدوق حدث عنه الكبار من المحدثين، وهو شيخ البخاري (العيني، د.ت) . كان كاتباً للضياع (ابن عدي، 1988)،  إلا إننا لا نعرف تحديدا أين كان ذلك ولمن، فلم تشر المصادر التي ترجمته إليه . ويبدو أنه كان محط رحال الباحثين عن الحديث وباعه في الرواية كبير جدا في عصره، وهذا يبدو واضحا من خلال قيام ابو نعيم الاصبهاني (ت 430هـ) بتأليف كتاب خاص بمن روى عنه أسماه ((الرواة عن سعيد بن منصور))، وهذا يدل على كثرة من روى عنه . اخذ عنه الأزرقي ثلاث روايات عنه . توفي سنة 227هـ بمكة (ابن سعد، د.ت).

5-سليمان بن حرب: أبو أيوب سليمان بن حرب الواشحي الأزدي البصري قاضى مكة (خليفة بن خياط، 1993)، ولد سنة 140هـ. وقد وُصف بأنه ثقة ثبت صاحب حفظ ومن كبار المحدثين (العجلي، 1985)، يدل على ذلك طلب الخليفة المأمون (198-218هـ) حمله إليه من محل سكناه في البصرة لما سمع عنه (الذهبي، 1993). ولي قضاء مكة ثم عزل فرجع إلى البصرة فلم يزل بها حتى توفي بها سنة 224هـ (ابن سعد، د.ت). أورد له الأزرقي ثلاث روايات .

6- محمد بن يحيى: هو أبو غسان محمد بن يحيى بن علي بن عبد الحميد بن عبيد بن يسار الكناني المدني (البخاري، 1406هـ)، وُصف بأنه كان أحد الثقات المشاهير يحمل الحديث والأدب والتفسير ومن بيت علم ونباهة (ابن حجر، 1984). وقد وثَّقه أصحاب الحديث وأخذوا عنه (ابن حبان، 1973) . أورد له الأزرقي 9 روايات في كتابه . لم تذكر المصادر سنة وفاته .

7- محمد بن يحيى بن أبي عمر: أبو عبد الله محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني الحافظ نزيل مكة (السمعاني، 1997)، والعدني نسبة إلى عدن مدينة باليمن (المناوي، 1994). وُصف بأنه شيخ الحرم في زمانه، رجل صدوق إلا أن به غفلة (الرازي، 1952). وعلى الرغم من ذلك روى عنه أهل الصحاح والسنن (المزي، 1985). وقد أكثر الأزرقي الأخذ عنه حتى بلغ مجموع ما رواه له 135 رواية . مات بمكة سنة 243هـ (البخاري، 1406هـ).

8-مهدي بن أبي مهدي العبدي: هو مهدي بن أبي مهدي حرب العبدي الهجري (الرازي، 1952). أدرك عكرمة مولى ابن عباس وروى عنه (ابن حجر، 1984).

وقد وثقه أصحاب الحديث ونقلوا عنه (الرازي، 1952). كما أخذ عنه الأزرقي 49 رواية في كتابه. لم تذكر المصادر التاريخية سنة وفاته .

9-يحيى بن سعيد القداح: هو يحيى بن سعيد بن سالم القداح مولى بني مخزوم (خليفة بن خياط، 1993)، أصله خراساني سكن مكة (البخاري، 1406هـ). اختلف المؤرخون في توثيقه فمنهم من رأى انه ثقة صدوق (ابن معين، د.ت)، ومنهم من ذهب إلى تضعيفه والسبب في ذلك أنهم اتهموه بالقول بالإرجاء وقالوا: “وكان يهم في الأخبار حتى يجئ بها مقلوبة حتى خرج بها عن حد الاحتجاج به” (العجلي، 1985). وقد أورد له الأزرقي ستة روايات في تاريخه. مات قبل سنة 200هـ (ابن حجر، 1984) .

 

 

الخاتمة وأهم الاستنتاجات

 

توصل البحث في ختامه إلى مجموعة من الاستنتاجات هي:-

1-     يعد كتاب (أخبار مكة) من المصادر المهمة في التراث الإسلامي لكونه أول المصادر المدونة في تاريخ مكة المكرمة، فضلاً عن كونه أول كتاب استخدم الوصف الجغرافي في معرض حديثه عن المدينة .

2-     أسهم المؤلف في كتابه هذا إسهامة فاعلة في التدوين التاريخي ببواكيره الأولى وأضاف إلى التراث الإسلامي أسلوباً جديداً تجلى بالمنهج الجمعي بين التاريخ والجغرافية مدللاً على ما للعرب من أثرٍ فاعلٍ في تطور الكتابة التاريخية الإسلامية ومنهجها .

3       قدم المؤلف مجموعة من الأخبار التاريخية المهمة في كتابه هذا أفادت من جاء بعده من المؤرخين بصورة كبيرة، لما سجل لهم من مشاهدات شخصية أودعها ثنايا كتابه، أصبحت فيما بعد مصدراً لا غنى عنه .

4-     أغفل المؤرخون حياة هذا المؤلف وجوانبها العامة بكل تفاصيلها على الرغم من شهرة كتابه بينهم .

5-     تضاربت أقوال المؤرخين حول وفاته، وهذا مرجعه – برأينا – يعود إلى قلة المصادر التي تناولت سيرته الشخصية، وكذلك الالتباس الناشئ من خلط بعض المؤرخين بينه وبين جده، الذي كان عالماً ومحدثاً كبيراً، وكلاهما عرف باسم الأزرقي .

 

 

المصادر والمراجع

 

  1. ابن الأثير، ع. ع. (د.ت). اللباب في تهذيب الأنساب، بيروت: دار صادر .
  1. الأزرقي، و. م. (2003). أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار. السعودية: مكتبة الاسدي.
  2. البخاري، م. م. (1406هـ). التاريخ الصغير. بيروت: دار المعرفة.
  3. بروكلمان، ك.ب. (د.ت). تاريخ الأدب العربي. بيروت: دار المعارف .
  4. البغدادي، إ. ب. (د.ت). هدية العارفين. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
  5. حاجي خليفة، ح. خ. (د.ت). كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون. بيروت: دار إحياء التراث .
  6. ابن حبان، م. ح. (1973). الثقات. الهند: مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن .
  7. ابن حجر العسقلاني، أ.ع. (1984). تهذيب التهذيب. بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
  8. الخطيب البغدادي، أ.ب. (1997). تاريخ بغداد. بيروت: دار الكتب العلمية.
  9. خليفة بن خياط، ع.خ. (1993). الطبقات. بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
  10. الذهبي، م. أ. (1987). تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والإعلام. بيروت: دار الكتاب العربي.
  11. الذهبي، م. أ. (1987). سير أعلام النبلاء. بيروت: مؤسسة الرسالة.
  12. الرازي، ع. ح. (1952) الجرح والتعديل. بيروت: دار إحياء التراث العربي .
  13. الزركلي، خ. ز. (1980). الأعلام. بيروت: دار العلم للملايين.
  14. ابن سعد، م. س. (د.ت). الطبقات الكبرى. بيروت: دار صادر.
  15. السمعاني، م. م. (1997). الأنساب. الرياض: دار الوطن .
  16. السيوطي، ع. ب. (1403هـ). طبقات الحفاظ. بيروت: دار الكتب العلمية .
  17. السيوطي، ع. ب. (2000). تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي. بيروت: دار الفكر.
  18. الطبري، م. ج. (1983). تاريخ الرسل والملوك. بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

20..   العجلي، أ. ص. (1985). معرفة الثقات من رجال أهل العلم والحديث ومن الضعفاء وذكر مذاهبهم وأخبارهم، المدينة المنورة: مكتبة الدار.

  1. ابن عدي، ع. ع. (1988). الكامل في ضعفاء الرجال. بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع .
  2. الفاسي، م. م. (1986). العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين. بيروت: مؤسسة الرسالة.
  3. كحالة، ع. ر. (د.ت). معجم المؤلفين. بيروت: دار أحياء التراث العربي.
  4. المزي، ج. ي. (1985) تهذيب الكمال، بيروت: مؤسسة الرسالة.
  5. مسلم، م. ح. (1404هـ). الكنى والأسماء. المدينة المنورة: الجامعة الإسلامية .
  6. ابن معين، ي. م. (د.ت). تاريخ ابن معين. بيروت: دار القلم للطباعة والنشر.
  7. مغلطاي، ع. ق. (2001). إكمال تهذيب الكمال. السعودية: الفاروق الحديثة للطباعة والنشر .
  8. المناوي، ع. م. (1994). فيض القدير شرح الجامع الصغير. بيروت: دار الكتب العلمية.
  9. ابن النديم، م. أ. (1978). الفهرست. ايران: دار المعرفة .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *