أ.د. اسراء حسين جابر

جمهورية العراق / الجامعة المستنصرية / كلية الاداب / قسم اللغة العربية

Lsraahussan987@gmail.com

009647717730210

الملخص :

تركز الدراسة على تشظي الهوية  في الرواية العراقية الحداثية بعد 2006م لاسيما الروايات التي حاولت نقل تجربة التهجير القسري الذي تعرضت له العديد من الشخصيات على اثر التحولات السياسية والاجتماعية والازمات المتوالية في المجتمع التي ولدت القتل والخطف والنعرات الطائفية لذا وقع الاختيار على ثلاث روايات نسوية جسدت تلك الثيمة وهي رواية (عشاق وفونوغراف وازمنة) للطفية الدليمي ، ورواية (عندما تستيقظ الرائحة ) لدنى غالي، و(صخرة هيلدا ) لهدية حسين، وهي روايات اثارت الكثير من التساؤلات حول الهوية واشكالية الانتماء  ، لنكشف عن انعدام الثبات والاستقرار في الهوية ،وهذا ما عانت منه الشخصيات الروائية الرئيسة جراء التحولات التي حلت بالعراق، فأصبحت الفئة المثقفة في البلد تتأرجح في هويتها فلم تعد تعلم إلى أي مكون تنتمي أو في أي مكان تجد ذاتها ، وكيف تلوذ بأرض تجد فيها الامان والاستقرار الذي غيبته الصراعات والاطماع ؟وبين البحث عن موطن جديد والانتماء للموطن الاصل الذي خلق فيه المحتل هويات ثقافية معادية وافراد مستلبين تلونت شخصياتهم وفق المتغيرات وقوة السلطة المهيمنة ، وبين الرغبة بالعودة واستذكار الماضي المبهج والحاضر المأساوي ، تولد موضوع صراع الهوية وتحولاتها .

ومن الجدير بالذكر ان الروايات النسوية المنتخبة امتازت بإحالة النص إلى مجموعة من السجلات الخارجية، التي تستدعي من خلاله الروائيات وقائع وأحداث وموضوعات وخطابات تاريخية خارج إطار المحكي النصي وسابقة عليه، وهو استحضار يحمل مهمة الكشف عن حمولات الحاضر من السوداوية وفقدان الأمل وتكشف عن قراءات متكررة للمأساة التي عاشها الإنسان العراقي عبر التأريخ ولازال يعيشها ، ولعل طبيعة المنهج السوسيونصي المعتمد في الدراسة فرض علينا ان نقسم الدراسة على محورين هما:

المحور الاول : مدخل الى مفهوم الهوية

المحور الثاني :تشظي الهوية وتمثلاتها في الرواية النسوية بعد عام 2006

الكلمات المفتاحية:   اللغة – الثقافة –التهجير- الهوية – الصراع

Identity fragmentation

In the Iraqi feminist novel after 2006

Prof. Dr. Israa Hussein Jaber

Republic of Iraq / Al-Mustansiriya University / College of Arts / Department of Arabic Language

 

Abstract

The study focuses on the fragmentation of identity in the Iraqi modernist novel after 2006 AD, especially the novels that tried to convey the experience of forced displacement that many characters were subjected to as a result of the political and social transformations and the successive crises in society that generated murder, kidnapping and sectarian strife. Therefore, the choice fell on three feminist novels that embodied that theme. It is a novel (Lovers, Phonograph, and Time) by Lutfia al-Dulaimi, (Tashari) by Inam Kachaji, and (Sakhr Hilda) by Hudayya Hussein, reveals the lack of stability and stability in identity, and this is what the fictional characters suffered from. As a result of the transformations that occurred in Iraq, the educated class in the country oscillated in its identity, so it no longer knew to which component it belonged or in what place it found itself, and how to seek refuge in a land where it found safety and stability that was absent from conflicts and greed? Between searching for a new home and belonging to the original homeland In it, the occupier created hostile cultural identities and dispossessed individuals whose personalities were coloured according to the variables and the power of the dominant power, and between the desire to return and recall the joyful past and the tragic present, the issue of identity conflict and its transformations was born. It is worth noting that the selected feminist novels were distinguished by referring the text to a set of external records, through which the novelists evoke historical facts, events, topics and discourses outside the framework of the textual narrative and preceded it, which is an evocation that carries the task of revealing the present loads of melancholy and hopelessness and revealing repeated readings of the tragedy Which the Iraqi man lived through history and still lives, and perhaps the nature of the sociological approach adopted in the study forced us to divide the study into two axes:

The first axis: An introduction to the concept of identity

The second axis: identity conflict and its representations in the feminist novel after 2006

Keywords: Language – Culture -Displacement – Identity – Comf

 

 

  • مدخل إلى مفهوم الهوية:

تعرف الهوية  بأنها، وحدة الشيء ووجوده ، فالهوية هي سؤال عن حقيقته التي تميزه  ، أي انها تتمركز في في طبيعة صياغة تعريف نهائي للانسان ، من هو ؟ ما هو ؟ فإذ قالوا ما به الشيء باعتبار تحققه يسمى حقيقة وذاتاً ، وباعتبار تشخصه يسمى (هوية) وإذا أُخذ أعم من هذا الاعتبار يسمى ماهية (صليبا،1986، ص53).

ويعرفها علماء الاجتماع بأنها  عملية تمييز الفرد لنفسه من غيره أي تشخيصه ، ومن السمات التي تميز الافراد من بعضهم بمعنى العلامات الملازمة كالاسم والنوع  ، والسن والحالة العائلية ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى أن الهوية هي أن يكون الشيء نفسه أو مثيله من كل الوجوه ، بمعنى الثبات والاستمرار وعدم التغير(النوره جي ،1990م، ص266) .

ومن الجدير بالذكر فإن الهوية تتشكل بفعل العديد من المهيمنات  التأريخية والعلامات الثقافية والدينية الفارقة ، والتي تمنح الانسان خصوصيته في مرحلة من المراحل الزمنية  فتتجسد بناء على التفاعل مع مستجدات الحياة  التي تمنح الانسان هويته وهوية  المجتمع بشكل عام .لذا فهي وليست ثابتة، اي انها خاضعة للتغيير وهذا ما أكده “إدورد سعيد” في كتابه الاستشراق الذي يقول فيه : “رؤية ما بعد الحداثة تصدر عن اعتقاد بأن الطبيعة والبشر والهويات والاحداث والظواهر والافكار لا تتشكل مرة واحدة وإلى الأبد،  بل كلها نتاج لحظة تاريخية وسياقات ثقافية تعطي لهذه الاشياء خصوصيتها التي لا يمكن تجاهلها كما لا يمكن تجريدها منها” ( سعيد،2001، ص51) ، وبهذا يؤكد أن الهوية لم تعد معطى ماهويا ثابتا وليست جوهرا محددا بل انها تكتسب  كيانها ووجودها من الاحداث التاريخية  والثقافة ومتغيرات الحياة وضغوطات الصراعات التي يولدها الزمن  ، وكلها خاضعه للتغيير لذا فالهوية ممكن أن تتشكل أكثر من مرة وتحمل سمات مختلفة عما سبقها .

وهو رأي لايتفق مع من يؤكد ثبات الهوية  في انها عملية تمييز الفرد لنفسه من غيره ؛أي تحديد سمته الشخصية الفارقة ، في أن يكون الشيء هو أو مثيله من كل الوجوه (النوره جي ،1990، ص266)

إذا سلمنا فرضاً إن الهوية ثابتة وليست متغيرة ، فقد أهملنا دور الشعور، واهملنا دور التقلبات الفكرية والنفسية والتحولات الثقافية التي تفرضها المعرفة الثقافية والاحداث التاريخية المفاجئة المعيشة والمستمدة مما هو مقروء ومحكي .

حتى ان الهوية التي تتشكل بفعل التاريخ ليست محددة او ثابتة  ، انما هي وليدة تجارب ايديولوجية وثقافية وحضارية  لمجتمع معين (النوره جي، 1990،ص 266)

ويكاد يتفق   “ستيوارت هال”  مع من ينظر للهوية على انها متغيرة بقوله : “ليست هوية ثابتة ولا هوية دائمة وتفترض هويات مختلفة في أزمنة مختلفة ” (لارين ، جورج، 2002، ص251) ، وهو بذلك يؤكد على أن الهوية تقوم على الاختلاف والتشابه مع الآخر .

ولعل الهوية  الانسانية كما يراها  “هايدغر”، هي وجود لا يمكن إدراكه أو فهمه بشكل مطلق، بل هو امكانات جديدة ممكنة “إنه لا يشابه وجود الشيء او الكتلة المادية كالحجر مثلا، بل إنه وجود حركي لا يكاد يتضح في مظهر سلوكي حتى ينقلب الى مظهر آخر” (صفدي ، 1980 ، ص8 )

إنَ الهوية الشخصية لا تمنح بشكل نهائي منذ الطفولة وحتى نهاية الحياة  بل تكتسب في الغالب  بالتعارض والصراعات والقطيعة  مع الجماعة

ولا عجب أن نجد بعض المفكرين ومنهم  “غوتلوب غريغه” يعلنون بأن الهوية مفهوم ليس له تعريف ثابت  ، وذلك لان كل تعريف يعد هوية بحد ذاته ، فالهوية -كما يرى- مفهوم انطولوجي وجودي يمتلك خاصية خارقة تؤهله للظهور في مختلف المقولات  ، وهو يتمتع بدرجة عالية من الشمولية والتجريد تفوق مختلف المفاهيم الاخرى القريبة منه (البعلبكي وآخرون ، 2013، 157).

وحين نطالع ما طرحه  المفكر الفرنسي “أليكس ميكشيللي” حول الهوية فانه يعرفها بأنها : مجموعة  متكاملة من القضايا المادية والمعنوية ،النفسية والاجتماعية التي تتضمن  نسق من عمليات التكامل المعرفي وتمتاز بوحدتها التي تتمثل في الروح الداخلية والتي تعكس خاصية الاحساس بالهوية والاعتزاز بها . فالهوية هي مجموعة من المشاعر الداخلية التي تمثل الشعور بالاستمرارية والتمايز والديمومة والجهد المركزي ، وهذا يعني أن الهوية هي وحدة من العناصر المتكاملة التي تجعل الشخص يشعر بتميزه  عن سواه ويعتز بذاته (ميكشيللي، 1993، 129).فليس التشابه بالسمات هو الذي يعطي معنى الهوية بل ان  طبيعة التناقضات والصراع القائم لحل التناقضات من منظار التكامل الدائم بين الأنا والآخر قد يسهم في معنى الهوية  .

فحتى نفهم الهوية لابد من ربطها بكل الظروف والشروط القائمة التي تصادفها الذات في زمنيتها، فكل مسعى للوصول الى هوية خالصة يستدعي الانغلاق على الغير وعدم الأخذ منه والتفاعل معه. “فكلما كان الانقطاع حاضراً تزداد حظوظ المحافظة على التشكيلة الاجتماعية وعلى نفوذ التقليدية فيها” (معلوف،2011 ، 34).

وهنا لابد من القول  أن كل حديث عن الماضي، يحمل في طياته نوعا من رفض الهوية، وفي الوقت ذاته  نوعاً من التخوف او العدائية نحو الآخر، وهذا الامر يوضح  ازدياد مفاهيم ( والتشكيك ، والخيانة  ) لاسيما في المجتمعات المنغلقة على نفسها و التي اجتاحتها رياح العولمة واثرت على عقول ومشاعر ابنائها، إذ  اججت العولمة قناعات  جديدة حول الانتماء تسعى فيها الى الانفتاح بدل الانغلاق والى التغيير بدل الثبات  وإلى الشك بدل اليقين، فصار الاعتراف ببالاخر و إدخاله ضمن كيانه الشخصي وربط ذاته به امرا واقعا  ولابد منه ( ريكور، 2009 ، 26) ، فالثابت العقلي الذي يعطي معنى متين على الديمومة في الزمن الذي يعد واحدا من التجليات التي تحاول الاحاطة  بالهوية عن طريق المقاربة ، فلم يعد متجذراً في فضاء المحلية، بل في فضاء العالمية.

فالهوية  لا تنفصل عن الحياة ولا عن الثقافة بالقدر الذي يرتبطان به بالوجود الإنساني، لأنه أحد المكونات الجوهرية للطبيعة الانسانية .

إذن فالهوية كمشروع تتأسس في الزمن ، ولا غنى لها  عن اصول الذات التي  تصوغها سرود حياتنا وترسم صورتها، اذ ان العناصر التراثية الذاتية في مشروع الهوية لا تتعرض للحذف والالغاء التامين “ولكن ثمة انتقاء يقوم على الحذف والاستبقاء” (كاظم ، 2004، 45)

فالهوية ليست فعلاً نهائياً في الكيان الإنساني،  بل هي تتشكل عبر التأريخ،  وتحدد خصائصه تقبل التشابه والاختلاف والتعددية ،  وهذا هو جوهر الوجود البشري، وهذا الحضور يظهر عبر أطر تضمن له التشكل والاختلاف ، وتوفر له ادوات التعبير عنها .

إن الذات االواعية لها وجود دائم  ضمن التاريخ، ترتبط بع وتتعايش احداثه وتعاينه،  وتضع نفسها على مسافة منه بحيث يتجلى لها في كامل موضوعته، ويطلق  “غادامير” على هذا الوجود ضمن التاريخ بـ “الوعي المندرج في الصيرورة التاريخية”، والتاريخ على وفق مقولة غادامير، شيء نعاينه دائماً من الداخل بما هو كذلك، حيث نقف فيه، والذات بهذا الارتباط بالتاريخ،  لن يمكنها أن تدرك الماضي في غيريته المطلقة،  لأنها تدركه دائماً على ضوء أفقها الخاص وانطلاقاً منه، وهذا ما يميز كل معرفة تاريخية على الاطلاق، ومن يظن أن باستطاعته الوصول إلى الأفق الآخر،  أفق الماضي، من دون أن يعتد بأفقه الخاص، إنما ينقل معايير ذاتية في الاختيار والمنظور والتقدير حتماً، لإعادة بناء الماضي بزعم أنها موضوعية” (كاظم ، 2004، 20)

2- تشظي الهوية وتمثلاتها في الرواية العراقية النسوية بعد 2006:

شهدت الرواية العراقية النسوية  بعد عام 2006  مدونات روائية حافلة بموضوعات  معاصرة لها اثرها في المجتمع العراقي اهمها الصراع الديني والعقائدي ، الاقليات ، قبول الاخر ، و الانتماء للوطن ،التنمر ، التهجير القسري ،واشكاليات الهوية من شتات واستلاب وتشظي  والبحث عنها ورفضها ، وهي موضوعات ظهرت  بجراء التحولات السياسية التي مرّ بها العراق.

ولعل الروائيات العراقيات كشفن الى جانب قضايا المرأة الذاتية عن علاقتهن بالاخر، وتجسيد القضايا الاجتماعية والسياسية الاكثر شيوعا في المجتمع ، فالهجرة  الى بلدان اخرى بسبب التحولات السياسية و شيوع ظاهرة التطرف والقتل والتهميش جعل الكثير من الشخصيات تطلّع على ثقافات وسلوكيات وديانات مختلفة ، لذا كانت تلازمها ازمة التعايش بوصفها مواطنة في وطن غير وطنها  ، ومن ناحية اخرى تلازمها  هيمنة الذاكرة والحنين الى الوطن الام ، وهذا ما خلق نزاعا داخليا وعدم يقين في الانتماء الى اي منهما ، وتراود الشخصيات العديد من التساؤلات ، اي دين واي لغة واي ثقافة واي عادات وتقاليد وسلوكيات تمثلني؟

فشخصية (نهى) مثلا التي تتعرض لحدث الاختطاف  في رواية (عشاق وفونغراف وازمنة )  ، ومن ثم تشهد اغتيال اخيها بعد الاحتلال الامريكي للعراق  عام 2003م ، تحاول ان تجد ذاتها  خارج فضاء الوطن الام حيث الاصول والنشأة والطفولة  والعلاقات الاسرية والطموحات ولذة الطموح ، تترك كل ذلك مرغمة ، لتبحث عن حاضن وفضاء جديد تجد فيه ما افتقدته في ارضها ، اذ تجد صعوبة في تقبل الاخر  فـ((تحاول أن تتناغم مع الأمكنة اينما تلقي بها الاقدار ، تحاول وتخفق ، تخذلها وسائلها ، تجهل الطرائق العجيبة التي يتبعها المتوائمون مع الأمكنة والبلدان ليفوزوا بنوع من طمأنينة زائفة في خضم حياة ليست حياتهم لانها تبقى _مهما فعلوا ومهما حاولوا- محض استعارة هزلية مؤقتة))(الدليمي، 2016، 20 ) فذات الشخصية تتقاطع بين الرغبة في الوجود وبين همها في ان تتعايش مع المجتمع الذي فرض عليها اسقاطاته والتزاماته وهذا ما يجعل الهوية تتشظى  لذلك تجد نفسها في مواجهة بين البحث عن الهوية في أرض الغربة في مقابل ذكريات الطفولة التي تشكل هي الأخرى هويتها ا التي دائما ما كانت  تثير مشاعر الانتماء للتأريخ وللثقافة  حتى بدت حياتها مرتبكة لتسأل ذاتها (من هي ومن تكون).

ربما ان الهوية الوطنية لايمكن ان تظهر وتنمو وتتطور ما لم تكن هناك تناقضات وبحسب ادورد سعيد فان الهوية ” لا توجد بمفردها ومن دون ثلة من التناقضات ، والنوافي والاضداد ” (سعيد ، 1998، 119).

فحين تتذكر حدث اختطافها تقر بعدم وجود شيء يربطها ببلادها الموجوعة، إذ تجده بلداً “يغتال كل رغبة ، ومتى ما أغتيلت الرغبة فإن الاغتيالات الكبرى ستحصل : أنا على سبيل المثال من اغتيلت رغبتي في الحب والحياة في محاولة اختطاف وزواج فاشل ، واغتيلت رغبتي في العمل حين عدت الى بغداد وامامي احتمال كبير أن لا اعود مطلقاً الى غرينوبل ، كم من الاغتيالات تلاحقني ؟ كيف سأنجو من كل هذا المسخ لحياتي؟” (الدليمي ، 2016، 101).

فهي واحدة من الشخصيات المسكونة بالرغبة في مواجهة الاحباطات الداخلية  لتعيش جدل الذات ما بين طموحها والعالم المحيط بها  ، فهي تعيش فضائين مختلفين ثقافيا واجتماعيا وهذا ما اسهم في تشظي الهوية وتولد هوية تاريخية حيث الاصول والوطن وهوية الاخر المختلف .

فتحاول الشخصية أن تبرر لنفسها قرار رفضها للهوية الوطنية  واصرارها على الابتعاد :” غداد في حزيران 2004 ليست بغداد التي تعرفها نهى : البلاد ظلٌ ممزق لصورة تتلاشى ، بغداد تغيرت والعراق ليس هو العراق الذي غادرته في 2006، وجدت نهى صعوبة في التآلف مع طعم المرارة القاتل ، المدينة في حالة انحلال ، الناس يغالب بعضهم بعضا والقبح ينتشر كوباء اسود والزمن يتطاير من مطحنة الاحداث ويتبدد على الوجوه ” (الدليمي ، 2016، 229).

إذا كان سؤال الهوية يكمن  في حالات عدم القدرة على الانجاز والتواصل  أو تقبل الآخر فضلاً عن الإحباط والعجز عن الشعور بالتوازن مع المغاير يؤدي بالفرد إلى الشعور بالخوف من هويته فان شخصية (نهى) تشكل شخصية محورية  ،فهي من ناحية  تعيش صراعا هوياتي  وذلك بسبب غربتها التي تعيق طموحاتها وتجعلها غير قادرة على تحقيق أهدافها المستقبلية لتعتزل محيطها ، ومن ناحية نجدها منقبة في اعماق الذاكرة عن جواهر تربطها ببلدها حيث الطفولة واماكن صباها والبحث عن شريك في المصير  .

اما شخصية (نادر) فهي شخصية مرتبطة بوطنها وتشعر بالانتماء الكامل له ولا تسعى لتركه بأي شكل من الاشكال ، شخصية  تفضل الانعزال عن المجتمع الذي لا يتوافق مع تفكيره على ان يغادر وطنه ، الا ان حبه لنهى خفف عنه الشعور بالقهر على ما يمر به البلد من  “الأضحيات البشرية التي تقدم صباح ومساء على مذبح العقائد والسياسات ؛ فيعمد في احيان كثيرة الى إغلاق منافذ الاتصال بالعالم الخارجي ويمتنع عن مقابلة أصدقائه المعدودين الخُلّص ويستغرق في قراءات مستفيضة عن الكون وفلسفة العلم ومستجداته ” (الدليمي ، 2016 ، 332).

يعكس النص  الاحداث الدموية التي سلبت الانسان حقوقه التي جعلت كل فرد فيها ينعزل عن مجتمعه وعد الانخراط والتواصل معهم ، وهذا عائد الى ضعف المواطنة  ،  فالاحداث التي مر بها العراق بعد عام 2006 اسست لهوية دينية ثقافية محددة وهو مجتمع  متعدد الهويات وهذا ما خلق فجوة بين المواطنين أنفسهم ومن ثم ضعف الانتماء والمواطنة  .

ربما ما جعل شعور شخصية نادر يحتد بهويته العراقية هو شعوره بالخطر الخارجي المحمل بالعدائية الذي اثقل البلد بثقافة الاقصاء والتهميش وهذا ما جعله يرفض الهجرة ” مصمم على عدم اقتلاع نفسه من العراق ويردد دائما ؛ رغم معاناتي كل انواع الرعب والخوف والعزلة وتوقع ما هو اسوأ كل يوم ، لكني لا استطيع العيش بعيدا عن هذا البيت” (الدليمي ،2016 ، 334)

وتظهر شخصية (نهى) الاكثر تأثراً بالاحداث المفصلية الخطيرة التي مر بها العراق ،لتعيش حالة من التأرجح بين الانتماء والانسلاخ ، إفمن خلال رصد التصدع الذي طال اللحمة الوطنية وتشتتها في المنافي ، وهذا ما جعلها لا تشعر بالانتماء للوطن ، فكان البقاء في البلد هو محور الصراع بينها وبين نادر ،فلم تحبذ البقاء في العراق ، فحاولت إقناع نادر بذلك :”نادر انت حالم كبير ، العراق بيئة طاردة للعلم والابتكار ومن سيهتم باختراعك هذا

  • أؤمن أننا بالحب نستطيع انجاز الكثير ، الحب قوة دافعة عظيمة أتؤمن بما أفعل؟؟” (الدليمي،2016،373)

وتعكس الرواية ايضا هوية المثقف في العراق : ” طرازنا من النساء والرجال لم يُخلق لهذا الزمن ، حولنا أمة من الأقنعة وحشود من القتلة علّمني عمي الشيخ قيدار أن أدع  كل شيء خلف ظهري وأمضي قدما،……في بغداد يتشابه الجميع ليختلفوا أكثر ويقتل أحدهم الآخر ، هم نتاج الكراهية والتحارب والدماء ، وقد يقتلنا البعض قتلا معنوياً  بخداعه لنا ” (الدليمي ، 2016، ص145) .

فهوية المثقف في حالة استلاب حقيقية ،جراء الاحداث الطائفية والقتل العشوائي وهذا ما جعل الشخصيات المثقفة تثور وترفض وتتمرد على واقعها والتمرد على هويتها

وتشكل اللغة  هوية متشظية بين اللهجة العراقية ولغة موطن الغربة ، فعلى الرغم من حماية الفرنسيون للغتهم من هيمنة  اللغات الأُخرى ، تلجأ إلى أفكارها التي تتوسد ذهنها باللهجة العراقية والاغاني العراقية والعبارات التي تثير الانتماء للمجموعة “وسط بلبلة لغات وأراق ، هي بين الغرباء تلوذ بلغتها التي تحبها ، ترى اللغة سوراً لا مرئياً يحرس وجودها من التلاشي ، تفكر وتحيا وتتحرك في أروقة لغتها ، تعوم في نهر من مفردات وعلامات ، واللغة تتدفق حولها ومن اعماقها” (الدليمي ، 2016، ص110).

فلم تكن اللغة مجرد كلمات وألفاظ للتفاهم لكنها جزء من هوية الشخصية (نهى) وهي وعاء لكل خبايا واسرار مجتمعها ،فما كان رسوخ تلك اللهجة إلا انجذاب وحنين لمجتمعها. في مقابل ضغط اللغة الفرنسية بحكم غربتها وعملها في ذلك البلد ، وهذا ما شكل تشظيا بين محاولتها التعايش مع فضائها الجديد  وبين جذورها التي تنبعث من ذاكرتها   .

حتى الاغاني و الاناشيد الشعبية اسهمت في خلق التشظي الهوياتي واسهمت في تحفيز الذاكرة والحنين الى الوطن الام والشعور بالغربة  ، فشخصية نهى تستحضر بذاكرتها انشودة طفولتها وهي تمشي في أحد شوارع باريس حين نزل المطر وتتساءل : ” ترى البنات يتراقصن تحت المطر ويغنين جذلاتٍ :

مطر مطر حلبي …… عَبّرْ بنات الجلبي

مطر مطر شاشا …… عَبّرْ بنات الباشا

مطر مطر عاصي …… طوّل شعر راسي

لم تكن تدرك سببًا لدلال بنات الجلبي المترفات وحظوة  بنات الباشا اللائي تطالب الصغيرات أن يحملهن المطر ويعبر بهن الطرقات بعيدًا عن الوحل والبلل “(الدليمي ، 2016، ص17) ،   ان استحضار الأغنية الشعبية في ذهن (نهى) من جراء نزول المطر في باريس حفز ذاكرتها وخلق تشظيا على مستوى الذات وجسد ازمة نفسية  جراء الغربة المؤلمة والحنين الى الطفولة  للهروب من الاحداث التي اسهمت في قرار هجرتها ،فما واجهته شخصية نهى من مرارة وقساوة  ظلت آثارها شاخصة في حياة الغربة  لاسيما حدث  اختطافها  قبل سفرها ومن ثم فراقها لأهلها ومدينتها  ،لذا فإن للطفولة أثراً إنسانياً عميقاً في الشخصية ، وعليه فقد وظفت الكاتبة هذا الجانب من الأغنية التي تخص مرحلة الطفولة واللعب اثناء نزول المطر فقد لجأت إلى أفكارها التي تتوسد ذهنها باللهجة العراقية والأغاني العراقية والعبارات التي تثير الانتماء للمجموعة، فضلا عن ذلك فأن اللغة لم تكن مجرد كلمات والفاظ للتفاهم لكنها جزء من شخصية نهى وهي وعاء لكل خبايا واسرار مجتمعها ، وهو ما يؤكد انتماء الشخصية وحنينها الجارف إلى وطنها .

ولم تكن شخصية نهى وحدها هي المتمردة على واقعها اذ نجد شخصي (صبحي الكتبخاني) والد جدها هو الاخر يمثل شخصية متمردة ، فهو شخصية رافضة لهويته التاريخية  ، شخصية متمردة على اسرته التي تعلن ولاءها للسلطات العثمانية  ومتمرد على الاعراف والتقاليد مولع بالحداثة متشبثا بالعلوم المستجدة شغوفا بالموسيقى والنساء ، فتكشف مذكراته عن سعيه الدؤوب لتغيير مسارات حياته النمطية وتحقيق احلامه وذلك بخلاصه من هيمنة اسرته وسفره للدراسة في الاستانة ، فكان يظن ان هويته تكمن في السفر ” هناك سيتاح له أن يقرأ فولتير ، سيقرأ مونتسيكيو ، سيقرأ مسرحيات موليير المترجمة للتركية ، سيقرأ ويقرأ ولا سبيل إلى ذلك سوى السفر إلى الأستانة وهناك سيرى حقيقة السلطان والسلطنة التي يقدسها أبوه على انها امتداد للخلافة الاسلامية وهي وحدها التي يحق لها حكم بلادنا والبلدان الاسلامية اجمعها ، وكانت هذه إحدى تناقضات الأب والابن ؛ فكل منهما يمثل ضداً مخالفاً لصاحبه ، هناك سيرة عن كثب حقيقة ما يشغله من أمور جرى الاختلاف عليها..”(الدليمي ، ص179).

نستطيع ان نعد شخصية (فصبحي الكتبخاني)  شخصية ثائرة تمكنت من مواجهة التحديات ، فبالإضافة الى تمردها السلطة الابوية  ورفض للاعراق الجامدة  ، نجدها تتمرد على مستوى الأفكار ورفض التبعية ، فيحاول تغيير مظهره الخارجي جراء الانبهار بالآخر :”خلع الملابس التي أتى بها من بغداد تنهد وشعر بأنه تحرر من عبء ثقيل طال حمله واعتبر ملابسه البغدادية منذ تلك اللحظة أسمال زمن لن يعود ، وطلب من مالك المخزن أن يهبها لخادمه، انتشى جسده الفتي وهو يلامس القميص القطني الرقيق بنعومته الفائقة وامتلأ زهوا والبائع يعلمه كيف يعقد الرباط الحريري الفرنساوي الصنع وكيف يعتمر طربوشه الجديد الذي يليق ببدلته الفاخرة ، ولم يكتم مشاعر الفخر بالتغيير الذي حصل له وهو يرى هيأته الجديدة التي جعلته رجلاً ذا شخصية مختلفة تماما وتناسب شاباً يدرس في الأستانه” (الدليمي ، ص202) ، فقد اذهلته المدينة  بمظهرها الخارجي فكان الملبس أول تلك القشور التي لا تلبث أن تتعرى أمامه ليرى زيف ما تلك المجتمعات وما تخفيه ، وما تحاول تصديره للدول العربية الخاضعة لها .فكل هوية تتشكل بفعل التجربة المشتركة في ظروف محددة إذ تتبلور التصورات والقناعات بأنه ينتمي لجماعة دون اخرى ، وبالإمكان أن تتغير تلك الهوية بتغير القناعات وتعدد التجارب وتحولات الزمن .وقد تتأرجح بسبب تحول الانتماءات .

كذلك نجد في رواية (عندما تستيقظ الرائحة ) لدنى غالي التي تنقل واقع الهجرة القسرية جراء الفوضى والاضطرابات والانقسام التي عاشها العراقيون على نحو عام وشخصياتها على نحو خاص ، اذ تحاول الروائية ان تسلط الضوء على معاناة العراقيين في ارض الغربة وما تمخض عن ذلك من صراع الهوية وتشظيها  ،  فشخصية رضا مثلا   لم تستطع تقبل الحاضن الاجتماعي والثقافي الجديد  الذي  هاجر اليه بسبب ما تعرض له في ارض الوطن  ارض الولادة والمنشأ ،فهناك شد الى الحاضن الجمعي حيث الوطن في مقابل الوجود الاجباري في ارض الغربة ،  فقد عكس المعاناة الحقيقية والنموذج الامثل للصراع الهوياتي الذي تعانيه اغلب الشخصيات العراقية المهاجرة ، فشخصية رضا بتركيبتها  لم تستطع تقبل المجتمع الجديد لكنها ارغمت على العيش فيه لذا تتصارع في داخلها مشاعر الحنين للماضي وعدم القدرة على التعايش أو التكيف في المجتمع الجديد،  وهذا ما ولد  عنده اضطرابا وازمات نفسية  جراء الاحداث الاليمة من سجن وضرب ومرض وخيانات وتهجير

ويحاول الراوي ان يجسد لغة الشخصية التي  نستشف منها تشظي الذات بين فقدان  التحكم بمشاعره والتعايش مع  الفضاء الجديد بكل ما فيه من لغة مختلفة واخلاقيات لايستطيع تقبلها وبين  رغبته بالعودة مع عدم استطاعته لقساوة ما مر به والخوف من القادم الذي قد يكون اسوأ ، هذا الصراع افقد الشخصية التوازن وهيمن عليها الشعور  بالغربة والوحدة :”كم من مرة اقف مترنحا لأحدث نفسي في المرآة . أكلم هذا الولد الذي لا يزال تائها بداخلي . لكنني أحمق ، مضحوك علي ، فاشل أملأ دمي بالسموم . كم من مرة يشتد قلقي لإرتجافة  يدي ووزني المتناقص ، وجهي الذابل وخطوط الشيب التي ترعبني بغزوها رأسي”(غالي ،ص140) الغريب في هذه الشخصية وبالرغم من التفكك الاسري وابتعاد زوجته والاحداث المريرة التي حصلت في العراق  الا انه شخصية حاولت ان تبروز ذكرياتها وان تبقى حبيسة الماضي وما تحمله الذاكرة من قيم وعادات وسلوكيات تجعله ينبذ اي ثقافة اخرى .

هذا ما جعله شخصية بلا حاضن بلا ارض ، بلا وطن شخصية  بلا عائلة بلا اصدقاء بلا اهل في ارض يجهل عنها الكثير وخوف من وطنه الام رغم حنينه  جعلته يشعر بخيبة الامل .

اما شخصية مروى البصري هي ايضا من الشخصيات التي مثلت تشظي الهوية لاسيما الهوية اللغوية فعلى الرغم من محاولتها التكيف مع حياة الغربة مرغمة الا ان ما واجهها صعوبة تعلم اللغة الانكليزية وهذا ما يجعلها تشعر بشد الى وطنها  ، إذ تشتاق  الى لغتها العربية الى الحوارات للتلاعب بالكلمات ، فكلما سمعت حديثا عراقيا تشعر “تهطل مطرا مدرارا ، ماء يتعكر فيه الحزن والدهشة وشعور بالبغض من حالي . اسأم انكليزيتي الركيكة ، دانماركيتي السيئة والاستعانة بالمترجمين والمترجمات” (غالي، ص155) كما هو واضح فان اللغة هي اساس التواصل بين الافراد لذا  فعدم القدرة من ايجاد انسان تتبادل معه الحوار ، انسان يفهم ما تقوله ويشعر بما تشعر به ، هذا ولد لديها احساسا بعدم  التكيف والتعايش في البلد الحاضن ، اذ تؤكد صعوبة “اقتحام التجمع الغفير لتلك الاجناس المختلفة من البشر ما يدفعني الى الاختباء خلف ماريا. تشق الطريق لي كل مرة ننتقل فيها الى مجموعة تعرفني عليها . بعد جرعات احصل عليها من هنا وهناك يبدأ جسدي بالاستجابة . أجهزة الصوت ضخمة جدا والموسيقى التي تعزف تهز الجدران في القبو الذي ننزل اليه” (غالي ، ص172) لذلك تبقى تائهة تواصل الصراع مع ذاتها المتشظية حتى عندما ارادت التواصل مع (نهلة) وجدتها قد تغيرت جذريا ولبست الشخصية الدنماركية فغيرت اسمها وطبيعة شخصيتها : “ماذا أقول لها عن وحدتي ، انا الغريبة . ونحن ملة لا تأخذ فرحها إلا من الاخرين ؛ نحن نستقي الفرح ، لا ينبع منا ؛ الفرح عندنا هو ما نتقاسمه مع الاخرين”(غالي ، ص221) ،وهذه خيبة امل اخرى وضياع للذات والهوية ، فقد شعرت بخسارتها لمن يبادلها المعاناة لتستمر بوحدتها ومناجاتها وتساؤلاتها التي لا اجابة لها : “يا إلهي كم نحن قاصرون ، وقاصرون عن ان نكون نحن . مَن نحن ، مَن كنا . هي الأسئلة ، لا املك غير الأسئلة ، ليس قبلا . الآن ، في هذا المكان ، من أنت ، لا أملك غير الأسئلة . متى كان هذا تماما ! منذ متى أين أنا ، أين، أسأل دوما . أيحدث كل هذا ، أفي العشرينات ، الاربعينات ، الخمسينات ، ام الثمانينات ، ام التسعينات”(غالي، ص228) اسئلة تتشظى وتتفرع باضطراب واضح تهيمن على فكر الشخصية بسبب ما عانته من تهجير وقسوة والم اسئلة تؤكد ازمتها النفسية وبحثها عمن يشاركها العيش والبوح والتواصل اسئلة فيها لوم موجه للتاريخ وللمحطات المؤلمة في بلدها التي تتكرر باشكال مختلفة ، والخاسر الوحيد هو الانسان.

اما في رواية( صخرة هيلدا ) للروائية هدية حسين  شكل التشظي ملمحا ملفتا في ذات المرأة العراقية المسكونة بالرغبة في مواجهة الاحباط الداخلي على المستوى الشخصي والانساني والاجتماعي ، متجسدا في جدل  الذات في بحثها عن نفسها والعالم من حولها وهذا ما خلق ذاتا متشظية عصفت بها فضاءات المنافي اثناء رحلة البحث عن وطن بديل وآمن .

فتحاول الروائية  التقاط تفاصيل حياة الشخصية وترسم لنا حالة التشظي بين وحدتها في الغربة ووحدتها في بلدها ، قتظهر شخصية (نورهان ) الشخصية  المتأزمة نفسيا التي تعيش حالة من القلق الوجودي ذلك بسبب ما مرت به من الم ومعاناة بسبب مقتل والدتها على يد مجهول  جعلها تقرر الهجرة الى موطن اخر تحاول ان تنسى ما مر بها وان تبحث عن ذاتها التي ضاعت وسط احداث العنف التي هيمنت على البلد وبحثا عن سكينة وسلام لروحها المأزومة والتي لا تعلم هل  ستجدها ام (حسين، 2013،ص21) وهذا ما ولد لديها الخوف من التعامل مع اي شخصية  ، ففضلت ان تحاور صخرة وتبوح لها بمشاعرها على ان تعتاش مع اشخاص اخرين . لعل القلق ولد صراعا داخليا بين تشبث الذاكرة وهيمنتها على الشخصية وبين محاولة محو ما مر بها لتصل الى هدوء النفس  “ثمة صوت في رأسي لا يكف ولا ثانية لقد اثرت المكوث منذ سنوات ولا يتركني الا بعد ان اسقط في النوم وما ان اصحو حتى يبدأ مع اول حالة صحو ، لا هو بالازيز ولا بالطنين ولا بالصرير ولا … ” (حسين ،2013، ص30) هذا الصراع جعلها تيقن بلاجدوى الحوار مع الاحياء فتفضل الحوار مع الاموات فيقع الاختيار على صخرة نادرة في وجودها وشكلها صخرة هيلدا التي اكتسبت اسمها من شخصية ميتة  رحلت وهي في عمر العشرين عاما ، كتب عليها (مورياك يحبك يا هيلدا) تقف نورهان عند الصخرة تناجيها : “جئتك من اقبية الدخان والخذلان من بلد هو الوحيد في العالم يقيم مهرجانات للاحزان ويتوجس من الافراح والمسرات بلد اذا زلت فيه المرأة اقاموا عليها الحد والحد عندنا مرهون بأطراف السيوف والخناجر.. سيوف وخناجر لامعة وصقيلة لا نستحي من رفعها شعارات على اعلامنا ومنارات تسير تحتها الجموع مغيبة عن الوعي ،الامان هنا هو القاعدة وفقدانه هو الاستثناء وهناك في بلادي وشقيقاتها فقدان الحياة هو القاعدة والامان هو الاستثناء ولذلك فالكل خائف هناك..”(حسين ، 2013، ص 78) تحاول الشخصية هنا ان توضح سبب اضطرابها وخيبة املها من موطنها الاصلي وتحاول مقارنته بالموطن الحاضن الذي لم تستطع مجاراته فتبوح بأهم السلبيات التي عانت منها في الواقع العراقي من حيث هيمنة الاحداث الاليمة والمحزنة عبر التأريح ، حتى اصبح الامان ضائعا على العكس من البلد الذي لجأت اليه إذ  يعطي الحق لكل فرد فيها ، حتى الحيوانات لهم جزء من هذا الحق ، حتى انها توظف بعض المشاهد لتبين المتناقضات ما بين المجتمعين،اذ ترصد  عائلة تربي حيوانا يرافقهم في رحلة يعاملونه وكأنه طفل صغير ، هذا المشهد اثار تساؤلاتها حول اسباب ضياع حقوق الانسان وليس الحيوان

فالانسان في بلد الحضارت يقتل بلا اسباب ويرمى بلا شفقة او رحمة ، وان عاش فلا مناص من المحن والصراعات من اجل الوجود او التهميش والا فالهرب هو الحل الامثل ، صراعات خلقت بفعل المحتل وجعلت من الوطن طاردا لاهله ولا ملاذ لمن خرج سوى الذكريات السارة التي تبقيه متشبثا بما بقى.

ولا تكتفي بذل فهي تحاول عرض المتناقضات ما بين صورة الخوف في العراق والخوف في البلد الحاضن ، فالخوف في  كندا له عيد ،اذ يتنكرون بازياء غريبة ومخيفة من اجل الضحك والتسلية وهو حدث جعلها تقارن ذلك بالاعياد اللا متناهية للخوف في بلدها اعياد كثيرة لكنها ليست لتسلية اعياد “بأدوات حقيقية.. فؤوس وسكاكين وسيوف وخطى قريبة تتبعك… فيمضي كاتم الصوت او السكين الى صدرك… وقد يفجرون اجسادهم فتتشظى لحظة لانهم يعتقدون انهم بموتك سيتزوجون من الحور العين”(حسين ، 2013، ص104) هذه المقارنات بين الفضائين ولد اضطرابا  وتشظيا على مستوى الهوية فهناك  قلق وحيرة من القادم في كيفية التواصل والتفاعل مع الاخر وكبف سترمي بحمولة الذكريات التي تكبلها .

ومن الجدير بالذكر ان التشظي قد طال مشاعر الحب فعلى الرغم من محاولاتها نسيان علاقتها بشاهين التي لم تكلل بالنجاح لارتباط شاهين بواجباته العسكرية الا ان ذاكرتها في الغربة لا زالت تصور لها جمال تلك الاوقات ، وفي الوقت نفسه تحاول ان تنتشل الذاكرة من تلك المهيمنات العاطفية لتستعيد نفسها من جديد : “أدرك الآن أنني خارج مقاسات الحب , وما عدت بذلك الزهو الجسدي لتقبل العلاقة , فلماذا استوطنني فايروس المرض وأكل نصف عمري وما زلت أكافح كي أتخلص منه ؟

الآن يا هيلدا أعترف بأنني سئمت حكاية شاهين وأريد أن أستعيدني بذاكرة نظيفة , أسترجع ملامحي قبل أن يطمسها الزمن , كانت الحياة فظة معي وغير مقنعة في مسوغاتها ولم تعد صالحة للنظر وأنا على هذا البعد الشاسع من تلك الحياة , وأدرك تماماً بأنني لم أعد تلك الزهرة اليانعة التي حان أوان قطفها ولم تقطف , أنا الآن أقفز عتبات السنين بسرعة لم أكن أحسها من قبل , لهذا كله أرغب , وإن جاء الوقت متأخراً , بتخليص جسدي من ذلك الفيروس … ربما تسخرين يا هيلدا عندما أصف الحب بالفايروس , أنت معذورة لأنك لا تدركين أن الحب عندنا نحن الشرقيات مثل مرض يستوطن الروح ولا نبرأ منه حتى آخر العمر , وكل ما نطلبه بعد ذلك هو تأجيل الأحزان وليس ردها , وتكون تجربتنا الأولى هي البصمة التي ترافقنا طوال العمر , وإذا خذلنا الحبيب تصبح الدنيا غير الدنيا , وتأتي العلاقات اللاحقة مثل صدى نسمع رنينه لكن سرعان ما يذهب جفاء, تماماً مثل هذا الزبد الذي تقذفه الأمواج عند صخرتك ” (حسين ، 2013، ص187 )

الخاتمة

بعد تلك الرحلة في تشظي الهوية  وقفنا على مجموعة من النتائج اهمها

  • حاولنا ان نقف عند حدود مفهوم الهوية وكيف تحول من الثبوت الى التعددية بفعل التطور وضغوطات العولمة الفكرية والثقافية واثره على المجتمعات
  • لاحظت الدراسة ان تشظي الهوية يكمن في  فقدان القدرة على الامساك بالذات جراء ما مر به المجتمع من تغيرات سياسية  و حروب وظروف من حصار اقتصادي وتهجير وقتل وعدم توافر الامن مما ولد ضعفا على مستوى التعايش مع المجتمعات الاخرى .
  • من خلال الروايات المنتخبة نجد ان روايات ما بعد الاحتلال وتغيير النظام السياسي تحيلنا إلى مجتمع عانى مؤثرات الحركات الاستعمارية التي رسمت حدود الدمار على جميع الصعد ، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وحتى الثقافية مما اسهم في تصدع هوية الفرد العراقي
  • ان الدمار الكبير الذي مر به العراق في مقابل ما تمتاز به المجتمعات التي هاجر لها ابطال الروايات جعل شخصياتها تعيش صراعا على مستوى الهوية ، فهل تتمسك بعربيتها ام تسير وفق ما تسير عليه البلاد الغربية ام ان الهوية تتشظى لتتعدد الهويات وفق الاعتياش ضمن الحاضن الاجتماعي والثقافي الذي يمنح الاستقرار والامان
  • اسهمت اللغة في تأجيج مشاعر الحنين وتوليد الصراع الداخلي والحيرة في ايجاد الذات وتحديد هويتها
  • كما لاحظنا من خلال الروايات ان هناك صراعا بين المواطنة وتقبل الاخر فالذاكرة التي تغذي عقول الشخصيات المغتربة بالمواطنة بفعل ما يشاهده من احداث ايجابية او سلبية تجعله يشعر بالذنب اذا ما حاول التكيف وقبول الآخر والاعتياش معه ،
  • خلقت الرواية النسوية العراقية متون روائية جسدت الصراع على المستوى النفسي والايديولوجي التي لامست المعاناة الانسانية بدأ من الظروف القاهرة والتهجير القسري الى البحث عن ذواتهم وسط لغة مختلفة وسلوكيات واخلاقيات لا تتوافق مع طبيعة تكوينهم .

 

المصادر

– صليبا ، جميل ،1986، المعجم الفلسفي ، بيروت:ج2 .

-النوره جي، احمد ، مفاهيم في الفلسفة ، بغداد ، ط1، مادة هوية

– سعيد، ادوارد الاستشراق ، مؤسسة الابحاث العربية – بيروت ،  ط5 .

–  النوره جي ، احمد ،1990،  مفاهيم فلسفية واجتماع ، دار الفنون الثقافي-بغداد، ط1 :مادة هوية

– لارين ، جورج ، 2002، الايدلوجيا والهوية، جورج لارين، تر: فريال حسن خليفة ،مكتبة مدبولي- القاهرة  ، ط 1.

– صفدي ، مطاع ، 1980، هايدغر والكينونة، ،  مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد3.

– البعلبكي ، محمد ، 2013،الهوية وقضاياها في الوعي العربي المعاصرة ، مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت (سلسلة كتب المستقبل العربي )(68) .

– ينظر : ميكشيللي ،أليكس ، 1993، الهوية ،ترجمة : علي وطفة ، دار الوسيم للخدمات الطباعية – دمشق ،ط1.

– ريكور، بول ، 2009،الهوية و السرد ، ترجمة : حاتم الورفلي  ،دار التنوير للطباعة والنشر-  الجزائر ، ط1 .

– معلوف ، امين ، 2011، الهويات القاتلة، ت: نهلة بيضون، دار الفارابي، بيروت- لبنان، ط1.

(13) ) ينظر:غاتشف ، عيورغي ، د.ت ،الوعي والفن، تر: د. نوفل نيوف (عالم المعرفة العدد146) الكويت

(14) غيرتز، كليفورد، 2009، تأويل الثقافات ، كليفورد غيرتز ،  تر: د.محمد بدوي (المنظمة العربية للترجمة ، بيروت ،ط1 .

– كاظم ، د. نادر ، 2004 ،تمثيلات الآخر،صورة السود في المتخيل العربي الوسيط ، الموسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت،ط1 .

– الدليمي ، لطفية ، 2016، رواية عشاق وفونوغراف وازمنة ،دار المدى –بغداد ، ط1 .

– غالي، دنى، 2006،عندما تستيقظ الرائحة ،  دار المدى – بغداد ، ط1.

  حسين ، هدية ، 2013 ، ضخرة هيلدا ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر –بيروت ،ط1

– سعيد ، ادورد ، 1998 ، الثقافة الامبريالية ، ترجمة : كمال ابو ديب ، دار بيروت ، ط1

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *